الزهــــــــــد
فى غمار الحياة المادية الطاغية ، وفى سُعار التكالب على لذاتها وشهواتها ، وفى طوفان التمتع بها والإستزادة منها ، ينبغى للمؤمن التفى أن يرعى حق روحه ومطالب قلبه ، وأن يستضئ بنور التخفف من زينة الحياة الدنيا ، والتلطف فى الأخذ من متاعها ، والحذر الحرص من الحرص عليها أو الطمع فيها .
وقد عنى القرآن الكريم عناية واضحة يإيثار الآخرة على الأولى ، وتفضيل ما عند الله ـ وهو مالاينفذ ـ على مافى الدنيا ـ وهو حائل زائل ـ فقال عز من قائل : ( بل تؤثرون الحياة الدنيا ، والآخرة خير وأبقى ) وقال : (وفرحوا بالحياة الدنيا ، وما الحياة الدنيا فى الآخرة إلا متاع ) ، وقال : (إنما الحياة الدنيا متاع ، وأن الآخرة هى دار القرار ) .، وقال ( تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ) .
إن الطريق إلى محبة الله عزوجل ومحبة الناس هو الزهد فى الدنيا ، والزهد فيما عند الناس وقد عرف العلماء الزهد فى الشئ بأنه الإعراض عنه لاستقلاله واحتقاره ، وارتفاع اهمة عنه ، والزهد فىالدنيا هو عدم التكالب عليها أو عدم حبه لها ، وإيثار ما عند الله فى الدار الآخرة على مافى هذه الدنيا : ( وإن الدار الآخرة لهى الحيوان لو كانو يعلمون ) .
وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فضرب المثل الأعلى فى الزهد ، والإعراض عن ملذات الحياة ، فقال : " اللهم احينى مسكينا ، وأمتنى مسكينا ، واحشرنى مسكينا " . ولما عرض عليه ربّه أن يكون غنيا سأل ربّه أن يجعله فى الحياة بحيث يشبع حينا فيحمده ، ويجوع حينا فيسأله ويرجوه " .
وإذا نظرنا إلى مواطن الزهد وأصوله وجدناه يقوم على ثلاث دعائم : " الأولى منها هى الثقة بالله ثقة تفوق كل ثقة ، والثانية هى أن يحسن المرء
احتمال المصيبة ولا يضبق بها ، والثالثة ألا يتأثر بالمدح أو الذم ، ولذلك قال يونس بن ميسرة : " ليس الزهادة فى الدنيا بتحريم الحلال ، ولا إضاعة المال ، ولكن الزهادة فى الدنيا أن تكون بما فى يد الله أوثق منك بما فى يدك ، وأن تكون حالك فى المصيبة وحالك إذا لم تصب بها سواء ، وأن يكون مادحك وذامك فى الحق سواء " .
وقال الحسن: " إن من ضعف يقينك أن تكون بما فى يدك أوثق منك بما فى يد الله عز وجل " .
ومن أوضح ألوان الزهد الجليل النبيل الزهد فى الجاه والشهرة والسمعة والمناصب ، ولذلك قال الأولون : إن الزاهد فى الجاه والرئاسة أقوى من الزاهب فى الذهب والفضة .
كما أن الزاهد الصحيح الصادق لا يتعارض مع أخذ الحظ المناسب من متاع الحياة الطيب ، فالقرآن الكريم يقول : ( قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) .
وقال عليه الصلاة والسلام : "حبب إلى من دنياكم النساء والطيب وقرة عينى فى الصلاة " .
ولقد جرت على ألسنة السلف الصالح كلمات نوابغ فى الزهد ، وتحديد حقيقته وأصوله ، فقال بن ورد : " الزهد فى الدنيا ألا تأسى على مافات منها ، ولا تفرح بما أتاك منها " وقال سفيان الثورى : " الزهد فى الدنيا قصر الأمل ، ليس بأكل الغليظ ، ولا بلبس العباءة " ، وقال أبو سليمان الدارانى : " الزهد ترك ما شغلك عن الله عز وجل .
وأما الزهد فيما بين أيدى الناس فهو مفتاح الوصول إلى محبتهم وتقديرهم ، وإذا طمع الإنسان فيما عند الناس ، فقد هان على نفسه وعلى الناس ، ولآن الناس يملون من يسألهم حاجاتهم ، ولوكانت خفيفة ، والشاعر يقول :
ولو سئل الناس التراب لأوشكوا ...... إذا قيل : هاتو ، أن يملوا ويمنعوا
ولقد قالت إعرابية لابنها توصيه : " يابنى ، إن سؤالك الناس مافى أيديهم أشد من الإفتقار إليهم ، ومن افتقرت إليه هنت عليه ، ولا تزال تحفظ ( بضم التاء ) وتكرم حتى تسأل وترغب ، فإذا ألحت عليك الحاجة ، ولزمك سوء الحال ، فاجعل سؤالك إلى من إليه حاجة السائل والمسئول ، فإنه يعطى السائل " ، والله عز وجل أكرم مسئول وأفضل مأمول .